بسم الله الرحمن الرحيم
من مفارقات حال الناس هذه الأيام، أن يكون هدف التلميذ المجتاز للبكالوريا
وحلم أهله قبل امتحانات هو أن يتحصل على الشهادة، ومهما كانت نتائج كشف النقاط عند
بعضهم. وما إن يتحقق الهدف حتى يصبح ذلكم الحلم عند الكثير منهم كابوسا.
يبدو أن الأمر لم يختلف كثيرا عما كان عليه منذ حوالي 16 سنة، عندما عايشت
مثل تلك التجربة وتحصلت على شهادتي للبكالوريا في دورة جوان 2001، أو بالأحرى
عندما افْتَكَيْتُهَا بعناء بمعدل 10,69. أذكر
أنه كان ذلك رغم تهويل ووعيد بعض أساتذتي ومسؤولي المدرسة بأنني لن أنجح بمستواي
ذلك ولن تعطى لي فرصة أخرى للإعادة في قسم نظامي، ولا ألومهم على تجرئهم فقد كان
معدلي السنوي تلك السنة 08,65.
ولكن الحمد، شاء لله ما لم يأملوا، فكما مررت في كل سنوات دراستي التي قبلها
تحت الرادار، بمشوار عادي ونقاط تكفي فقط للعبور، مرت امتحانات البكالوريا وتحصلت
على الشهادة بمعدل يكفي فقط للخروج مما كنت أعتبره مستنقع لم يلهمني في شيء.
أكون مبالغا لو قلت إنه كان لي أهداف وطموحات مرسومة، ولكنه كان بديهيا
للجميع أنه لو أعطيت الخيار في سلوك تخصص جامعي معين لاخترت الإعلام الآلي، لقرب
المجال من ولعي بالكمبيوتر، والذي كانت العائلة قد تَمَلَكت واحد منه قبل ذلك ببضع
سنين، ليصبح مذ ذاك ألصَقَ جليس لي في الأنام.
وكان ذلك، فعندما حان وقت الاختيار كان القلب على l’INI (حاليا ESI) ولكن
هيهات، فمعدل القبول كان بعيد المنال ولم يكن لي بديلا سوى الجذع المشترك
تكنولوجيا بجامعة باب الزوار (TCT). ورغم
محاولة بعض المقربين ثني عن ذلك الاختيار لما كانت تشهده الجامعة تلكم السنوات من
اضطرابات وإضرابات متتالية وصلت حتى إلى التهديد بسنة دراسية بيضاء، إلا أني خشنت
راسي وأمضيتها على مضض، فسجلت وتحصلت على بطاقة الطالب. ولم تمضي إلا بضعة أسابيع
حتى بدأت تتوالى على مسامعي أخبار لا تسر عن معارفي ممن كانوا يدرسون فيها نفس
التخصص لسنة وسنتين وهم الآن يقومون بالتحويل إلى تخصصات أخرى لا علاقة لها
بالمجال فقط لتردي ظروف الدراسة وعدم قدرتهم على المواكبة. فركبني الشك والخوف
وتحولت خشانة الراس إلى دفن للرأس واتباع للقطيع للأسف، أو ربما لا آسف باعتبار
المآل وستعلم السبب بعد حين.
وعن طريق العصى السحرية للمعريفة، حولت وجهتي إلى جامعة الجزائر ملحقة
الخروبة، إلى تخصص لا أعرف عنه سوى أن أخي الأكبر مني بسنة وثلة من أقرانه يدرسون
فيه، والجميع كان يردد إنه مجال المستقبل والمتخرجين منه بشهادة ليسانس سيجدون
مناصب عمل في شتى المجالات وفي كل أنواع الشركات. كان ذلك التخصص هو مجال العلوم
التجارية والذي تسميه بعض الجامعات بالعلوم الاقتصادية.
ولا أدري إن كان في هذه البداية المتذبذبة عبرة لأحد او لا. فمن الحكمة
وحسن التخطيط للنجاح معرفة ودراسة الفرص والمخاطر قبل الإقدام على أي اختيار مهم،
هذا من جهة، ولكن من جهة أخرى، إتباع الحدس الأول والشغف العامر من أهم أسرار
السعادة والنجاح في أي مجال حتى وإن كان اليقين بذلك متذبذب في البداية. ولكن في ذلك
العصر لم تكن رسائل أرباب التحفيز ورواد الشركات الناشئة (Startups) تصلنا، فَوُكِلْنَا إلى أنفسنا وإلى رواد الخبزة.
اختصارا للقصة، مرة السنوات الثلاث الأولى مرور الريح حتى أني لا أستطيع
استحضار أية ذكريات لي عنها تستحق الذكر سوى أن مدرج المحاضرات الرئيسي كان الأكبر
على مستوى الجامعة وكان أول الأمر يملأه حوالي الألف طالب، ولكم أن تتصوروا الحال
إذا لم تحظى بمقعد في الصفوف الأولى. كانت بعض المقاييس –القليل منها- تثير
اهتمامي ربما ليس لمحتواها بقدر ما كان لشخصية الأستاذ، شغفه وبراعته في تقديم ما
لديه.
حلت السنة الرابعة والأخيرة من المشوار الجامعي وزرعت في عقلي ونفسي بذور
يقظة لم تثمر إلا بعد سنوات. فقد كانت السنة الوحيدة التي لم أدخل فيها للدورة
استدراكية رغم أنها تزامنت مع الإعداد لأطروحة الليسانس، وكان هذا الأخير ربما هو
السر. فلما كانت قاعات الدراسة التابعة لمكتبة الجامعة مملوءة على الدوام عن آخرها
بالمتسكعين وأشباههم من الجنسين، وكان الانتظار طويلا أمام المكتبة طلبا لعناوين
الكتب ليس إلا ليفاجئك المكلف بالبحث مرات وكرات بأنها غير متوفرة، كان كل ذلك
دافعا للبحث عن البديل، فاكتشفت ككثير من طلبة السنوات النهائية المكتبة الوطنية
للحامة، ولجأت إليها بحثا عن مراجع لأطروحتي وعن مكان يساعد على التفرغ للعمل.
وهنا درس غالي تعلمته، وهو أن الانفراد بنفسي لمدة طويلة لكي أدرس، أعمل
وأفكر بمعزل عن كل تشويش، هو من أهم أسباب بناء الاستقلالية الفكرية، الانضباط المنتج
للثقة والقدرة على الإنجاز، عكس كل ما يسوقه المتواكلون ورواد الاتكاء على الغير.
في جوان 2005 تخرجت من الجامعة بشهادة ليسانس في العلوم التجارية، تخصص
محاسبة. وبعدها بثلاثة أشهر فقط التحقت بمنصب عمل أو بالأحرى بمنصب متربص (Stagiaire) في إحدى الشركات الخاصة، ليتم تنصيبي بعدها بستة أشهر كإطار
محاسب خلفا للموظف المستقيل.
والدرس هنا هو ألا يربع المتخرج حديثا يديه في انتظار الحصول على المنصب
الذي يريد في تخصصه وألا يقنع نفسه بمنصب دائم في مجال آخر لا يحبه فقط استعجالا للدخل
المادي من الأشهر الأولى. بل اعمل ببصيرة لما تريده ولا تستعجل الوصول من العام
الأول. فعند تخرجك وبدون خبرة عملية قد لا يقبل بك في أي منصب تتمنى. ولكن بخبرة
تربص جاد لـ 6 أو 12 شهر في منصبين مختلفين أو أكثر، أين تضع يديك عمليا في المهنة
وتقوم بمهام وأنشطة مختلفة، حتى وإن كان ذلك بدون مقابل مادي، فحينئذ لا يمكنهم
تجاهلك وحظوظك في التوظيف سترتفع كثيرا. وربما تدفعك تلك التجربة على قصرها وتفتح
لك أفاق المبادرة بمشروعك المؤسسي الخاص. وسأعرض في فرصة أخرى سبيل جديد يجعل
الموظِفين ليس فحسب لا يتجاهلونك، بل يهتمون بما لديك لتقدمه منذ البداية، وربما
يحرصون على التحاقك بمؤسساتهم لإجراء تربص لديهم حتى قبل تخرجك.
دامت تجربتي في تلك الوظيفة 3 سنوات كاملة وتعلمت منها الكثير. ولكن كان
كلما تقدم بي الزمن كلما اشتد
علي إلحاح سؤال: هل سأبقى في هذا العمل طوال حياتي؟
وكان الجواب كل مرة أني لا أستطع أن أرى نفسي بعد 5 سنوات في نفس المجال. ليس لأني
لا أحسنه أو أنه لا يمكنه أن يكون مثير للاهتمام من حين لآخر وفي نشاط منه أو آخر.
ولكن فقط لأنه لم يكن يلهمني كما يفعل ولا يزال مجال المعلوماتية -في فرص استغلاله
للعطاء أكثر منه في جانبه التقني-. فكنت أقضي جل وقتي بعد العمل ولا أزال بلا كلل على
الكمبيوتر، أنجز تارة وأخربش أحيانا كثيرة.
قررت أن أتبع شغفي، وأبدأ من الصفر –على ما كنت أظن- بالدراسة من جديد،
فالتحقت سنة 2008 بمدرسة التكوين الخاصة "ابن رشد"، المعروفة بجودة
تكوينها العصري والتطبيقي بالمقارنة مع مراكز التكوين المهني العمومية. وكان الهدف
هو شهادة تقني سامي في الإعلام الآلي تخصص قواعد البيانات. فكانت تجربة تكوينية
واجتماعية فريدة بكل فرصها وتحدياتها، بمقاربتها التطبيقية وعديد المشاريع المصغرة
التي تسابقنا فيما بيننا فيها. لم يترك لي هذا خيارا إلا أن أتخرج سنة 2012 بتقدير
جيد جدا على رأس الدفعة (Major de promo) يا للمفاجئة!!!
صورة مأخوذة منs3geeks.com
والدرس هنا، هو أن الحياة قصيرة وقَيِّمَة، وقيمتها في مدى جودة إنجازاتك
وحجم عطائك نوعا وعددا. وفي نهاية حياة المرء لن يندم كثيرا على ما اشتغل به بقدر
ما سيندم على ما لم يعمله، على فرص النفع التي ضيعا، على التجارب المهنية
والاجتماعية التي لم يخضا ولم يخلص فيها لقيمه. جعلت هذا الاعتقاد أكبر حافز لي
عند التردد أو الخوف من الإقدام، أنا الله عزَّ وجلَّ لم يخلقني لأعيش عبثا وأني
مُخَيَّر فيما أعلم وفيما أملك من قدرات، مُسَيَّر غير مسؤول عن النتائج وعما لا
أعلم. عندما تتبع وتشتغل فيما تحب يصبح الجهد والتعب متعة.
بعد التخرج مباشرة دخلت في مخاض عسير، وقضيت بضعة أشهر في حيرة وتخبط باحثا
عن وظيفة تناسبني، فكانت كلها تدعوني لأن أختار بين العمل بشهادتي الجديدة والتي
لا تؤهلني إلا لمناصب دنيا على السلم الوظيفي أو أن أرجع
القهقري إلى ما ظننت أني خلفته ورائي إلى الأبد. وأنا أبحث عن طريقة لتسويق تغيري
لمجال تخصصي، وقفت على مجال جديد نسبيا ومطلوب بحدة في سوق العمل ألا وهو ازدواجية
المهارة (Double Competence) في
الإدارة والتسيير من جهة وأنظمة المعلومات من جهة أخرى.
وكانت الجامعات الأجنبية قد بدأت حديثا بالتخريج في مثل هذا المجال استجابة
للحاجة المتزايدة لكفاءات متخصصة في سوق برامج وأنظمة المعلوماتية المدمجة (ERP/PGI). فرَكِبْت الموجة ولعبت على نغمة "Double compétence en informatique et gestion". وما هي إلا أسابيع حتى عرض على زميل في الدراسة الالتحاق
بالمؤسسة التي يعمل فيها، للعمل كمستشار مهني في أحد المشاريع النهضوية التي بادرت
بها الشركة وكانت رائدة في تبنيها على المستوى الوطني (Consultant fonctionnel ERP)، وكان ذلك.
ولب المهنة باختصار، هو العمل كوسيط بين المؤسسة ومختلف وحداتها (مشتريات،
تخزين، مبيعات ومالية...) من جهة والفريق التقني للمشروع من جهة أخرى. ويلزم من
ذلك أن يتحدث المكلف بهذه المهمة اللغتين المهنية والتقنية معا، لينجح في ترجمة
متطلبات وطرق عمل المهنيين إلى مخرجات تقنية يمكن إعدادها وبرمجتها على النظام. فالعمل
هو مهمة مرافقة الموظفين، الإعداد والبرمجة التقنية، التنسيق والتواصل، التدريب، وحتى
إدارة التغيير والمشروع جملة.
شغلت هذه المهنة بدوام كامل لمدة 3 سنوات مليئة بالنضج الفكري، صقل
المهارات، الشغف في إيجاد الحلول وتحدي الصعوبات، ولكن كانت مليئة كذلك بالاستنزاف
العقلي والجسماني بسبب نمط العيش. مما اضطرني في النهاية إلى أن أسأل نفسي مرة
أخرى: هل أنا مستعد لأقضي سنين أخرى من حياتي في هذه الوظيفة؟ والأمر هذه المرة لا
يتعلق بالعمل أو المجال في حد ذاته، والذي أعتبره من أفضل التجارب التي قد يباشرها
الشاب لتحقيق ذاته، ولكنه مرتبط بنظام العمل المستهلك للقدرات والأعمار، النظام
الذي يأخذ لب وقتك وجل جهدك ويتركك فارغا لا تستطيع أن تستمتع بهواياتك وعلاقاتك أو
تجرب أشياء أخرى تثري حياتك.
وبالطبع هذه تجربة وسياق خاص بشخصي، وإلا فالمجال والتجارب تختلف باختلاف
الأشخاص، المشاريع والمؤسسات. ولا أتصور أحد في هذا المجال بكفاءة مزدوجة ولا يجد
منصب عمل مغري، ولا أدل على ذلك من أنه ولعدة سنين والشركة التي أعمل لحسابها تبحث
عن موظف آخر في نفس المنصب بلا نجاح. ولأكثر من سنة ونصف منذ استقالتي منه لا يوجد
بعد بديل. وليس هذا على المستوى الوطني فحسب،ً بل حتى أبعد من ذلك، فمنذ حوالي 3
أسابيع فقط، عرضت علي شركة بريطانية فرصة للعمل في مشروع لها بتونس -وهو أمر لم أتصور
أن أراه لا في أحلام اليقظة ولا حتى في المنام-، والموظِف الذي اتصل علي من لندن
وبعد أن أجبته أني أعمل حاليا في مشروع قد يطول، تنهد بعمق وسألني إن كنت أعرف
شخصا أخر يمكنه أن يهتم للعرض!!!
لأختم، بعد مخاض آخر طويل دام لعدة أشهر، كان القرار الختامي أن الإنسان
الضعيف لا يصلح أن يكون إلا موظفا شهارا، مملوك الرقبة في وقته وطموحاته. وبهذا
القيد والتعريف لم يعد من مجال آخر يمكنه استيعابي سوى ريادة الأعمال والمبادرة
بالمشاريع الخاصة. وعلى هذا عزمت وعلى الله توكلت. وللقصة بقية في لقاء آخر.
والدرس هنا، أن الناس ليسوا جميعهم سواء في قيمهم، طموحاتهم، سعة تحملهم
ودرجة تقبلهم للتضحيات. وليس في الأمر بالضرورة خطاء وصواب، بل لكل واحد منا كامل
الحق أن يحدد كل واحدة منها وفق ما يؤمن به، وفي كثير من الأحيان وحدها التجربة
والمكابدة توصل إلى اليقين فيها أو ربما الأصح أن أقول توصل إلىً وهم اليقين عند
كل محطة من محطات الحياة.
أرجو أن تفيد تجربتي المتواضعة هذه من هو مقبل على الاختيار ليختار ما يرى
فيه سعادته ونجاحه الشخصي قبل كل شيء، وأن تفيد من سبق منه الاختيار ليقبل تحدي
الاستمرار أو التضحية بشجاعة ليبدأ من جديد.
ولو أن شابا أو شابة في مقتبل العمر اطلع على جانب من تجربة حياة لنقل 10
أشخاص، شاركوا فيها نجاحاتهم وانتكاساتهم على مدار 10، 20 أو 30 سنة، فإنه سيثري
حياته بفوائد مئات السنين من التجارب التي لا تقدر بثمن.
الحياة قصيرة وغالية، ولن يستطيع أحدا أن يعيش حياتا طويلة كفاية ليجرب
ويقع بنفسه في كل الأخطاء قصد التعلم منها. الحكيم من يتعلم من غيره ويختار بذكاء
التجارب التي سيمضي فيها سنين عمره وخاصة الخصبة منها. وكما نقل في الآثار
"السعيد من وعظ بغيره".
فالحياة هي هدية الله تبارك وتعالى لكل واحد منا وما نفعله بهذه الحياة هو
هديتنا له سبحانه الغني الكريم.
بقلم Abdelatif Arab
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire