بعد ست سنوات ها أنا اليوم أسترجع ذكريات البكالوريا كأنني أعيشها
فعلا في هذه اللحظة و بكل تفاصيلها. فعلا كانت أياما جميلة تلك الأسابيع الأولى
بعد الإعلان عن النتائج باستثناء شيئين اثنين: أحدهما أنني لم أكن الأول في
الثانوية التي درست فيها كما كان الجميع يتوقع و هذا لم يعد يحزنني كون من تفوقت
علي الآن خطيبتي و قريبا أم عباقرتي، و ثانيهما أني تحصلت على معدل يسمح لي
باختيار أي تخصص أريده باستثناء الصحة العسكرية ولكني لم أكن أعلم بتاتا ماذا
أختار، و إن اخترت فعلى أي أساس سأفعل؟ هنا بدأت رحلتي في دوامة من الأسئلة مخرجها
الوحيد مشكلة تؤدي إلى إشكالية، "هل مازلتم تتذكرون درس الفلسفة: ما الفرق
بين السؤال و المشكلة و بين المشكلة و الإشكالية؟" الأمر بسيط: في حالتي هذه،
السؤال هو ماذا سأختار؟ و المشكلة هي على ماذا سأعتمد لأختار؟ أما الإشكالية فهي:
لنفرض أني اخترت اعتمادا على مجموعة من المعايير، هل سأكون قادرا على تحمل نتائج
اختياري هذا مستقبلا؟
هكذا اجتمع الثلاثة ضدي دفعة واحدة و ما كنت أبدا من ذوي الخبرة و
الحيلة. الشيء الوحيد الذي ربما كنت متأكدا منه هو أني لن أختار الطب و كل تخصص له
علاقة به ماعدا ذلك لم أكن أعرف ماذا أفعل، ضف إلى ذلك كنت منطويا على نفسي فلا
أصدقاء لي أستشيرهم و لا زملاء أستنصحهم فما كان مني إلا الأخذ بالقيل و القال بلا
علم بمصدر الأقوال.
بحكم أن معدلي كان عاليا
فقد كانت لي خمس خيارات فقط بدل عشرة فاخترت المحروقات و الكيمياء في المرتبة
الأولى تلتها الهندسة الكهربائية و الإلكترونيك فالمدرسة الوطنية للإعلام الآلي ثم
الهندسة المعمارية و لا أذكر الخامسة. كانت الإختيارات الأربع الأخيرة عشوائية فقد
كنت متيقنا من حصولي على خياري الأول.
بعد يومين من التأكيد
الفعلي للخيارات الجامعية علمت أن هناك مسابقة للإلتحاق بالمدرسة الوطنية
التحضيرية لدراسات مهندس بالرويبة و هي عسكرية. في البداية لم يكن يهمني الأمر
خاصة و أن التدريبات البدنية الشاقة من خصوصيات المدرسة و أنا والرياضة خطان
متوازيان لا نلتقي أبدا. لكن بإصرار من والدي قررت المشاركة في المسابقة. في ليلة
الشك و نحن ننتظر لجنة الأهلة كي تخبرنا هل نصوم اليوم الموالي أم سنفطر فيه رن
هاتفي و كان المتصل من هذه المدرسة ليخبرني بنجاحي في المسابقة و أن علي الإلتحاق
بها بعد ثلاثة أيام من العيد، كان أمرَّ عيد قضيته في حياتي. فعلا ذلك ما حدث،
التحقت بالمدرسة عن مضض و شاءت الأقدار أن لا أبقى فيها أكثر من خمسة عشر يوما
قررت بعدها الإنسحاب و العودة إلى الحياة المدنية.
بعد انسحابي هذا شعرت بالإحباط، شعرت بضياع مستقبلي و أحلامي، عن أي
أحلام أتحدث؟ بل أضغاث أحلام. في الحقيقة كانت تلك الصفعة الأولى التي أخبرتني أني
فعلا لا أملك أحلاما أعيش لأجلها و لا أهدافا أسعى لتحقيقها! نعم كل ما فعلته في
حياتي كان السعي لتحصيل أعلى العلامات و خطف الأضواء بأعلى المعدلات و قد وفقت في
ذلك لأبعد الحدود ولكن ماذا بعد؟
بعد هذه الصفعة القوية توجهت نحو جامعة بومرداس، فقد علمت أنه يمكن
التحويل بين تخصصين بنفس الجامعة شرط أن يسمح المعدل بذلك. أردت أن أتحول من
المحروقات إلى الإلكترونيك لا لشيء سوى لأن معدل القبول في هذا الأخير كان أعلى
منه في الأول! لم تتم عملية تغيير التخصص لأني تجاوزت المهلة المحددة للتحويلات
بيوم واحد فقط، تحسرت لذلك لكن ذلك لم يدم طويلا. هنا أدركت أني في الحقيقة غير
مهتم بكلا التخصصين، لكني لم أكن أعلم بعد أي تخصص يهمني و أي مجال يلهمني!
بالطبع بعد استنفاذي لكل
حظوظي و سوء استغلالي للفرص التي كان يتيحها لي معدلي وجدت نفسي أدرس المحروقات.
كان لخبرتي الكبيرة في حصد العلامات دور كبير في حصولي على التخصص الأكثر طلبا في
هذا الميدان و هو إنتاج المحروقات بعد عام من الدراسة في الجذع المشترك تكنولوجيا.
بعد دخولي في التخصص بدأ اهتمامي بميدان المحروقات يزداد خاصة مع
احتكاكي بأنجب الطلبة و انخراطي في النوادي العلمية خاصة النادي العلمي آفاق الذي
كان له دور كبير فيما أنا عليه الآن. لكن كل هذا كنت أراه بسيطا جدا لا يرقى
لمستوى تطلعاتي، كنت أرى أن ميدان المحروقات ليس بكل هذا الحجم الكبير و إنما تم تضخيمه
لا أكثر. على فكرة مازلت وفيا لرؤيتي هذه بل و أكثر اقتناعا بها من ذي قبل.
هنا بدأت أبحث عن البدائل، نعم أنا ناجح في إنتاج المحروقات و كنت من
أنجب الطلبة في دفعتي و لكن السؤال الذي كان دائما يراودني هو: ألا يمكنني أن أنجح
في ميدان آخر بالتوازي؟ ألا يمكنني أن أقوم بتوجيه أفضل لطاقاتي و قدراتي؟
لم أكن أعلم أن الإجابة عن هذا السؤال كانت ستشكل منعرجا في حياتي.
كانت هذه بداية رحلتي في عالم أعشقه و هو التنمية البشرية و بالتحديد التنمية
الذاتية و كان أول يوم تدريبي حضرته يوم 16 ماي 2015 تحت عنوان: تخلص من مخاوفك و
انطلق نحو مستقبل مشرق للأستاذ حسام بلعاتي الذي تعلمت منه الكثير. نعم كانت فعلا
الإنطلاقة نحو مستقبل مشرق بالنسبة لي.
في هذا اليوم اكتشفت فعلا من أكون؟ ما الذي أريده حقا؟ بكل بساطة:
اكتشفت رسالتي في الحياة و سعيت جاهدا لكسب وسائل نشرها. منذ ذلك اليوم بدأت أغوص
في أعماق هذا العالم و كلما غصت أكثر اكتشفت نفسي أكثر و ازداد يقيني برسالتي و
تعلقي بها. ليس هذا فحسب، بل و اكتشفت أنه يمكنني النجاح في الميدانيين معا
(المحروقات و التنمية البشرية) و هو ما فعلته.
الآن بعد تخرجي من الجامعة أجد نفسي كوتش، محاضرا و مدربا معتمدا في
التنمية البشرية أقدم محاضرات و دورات تدريبيه في مختلف أرجاء الوطن أغلبها في
التحفيز، التغيير، الثقة بالنفس و كذا التوجيه المدرسي، الجامعي و المهني و أشعر
بسعادة كبيرة كلما ساهمت و لو بشكل بسيط في إيقاظ عزيمة أحدهم، في تغيير حياته نحو
الأفضل، في تحفيزه للمضي قدما و في مساعدته على إيجاد المسار الصحيح لحياته
العلمية و المهنية. كانت هذه قصتي مع البكالوريا و الجامعة أردت مشاركتها معكم
لتستفيدوا منها أو على الأقل من بعض مراحلها.
ربما يكون أكبر قرار يتخذه الإنسان بخصوص حياته العلمية و منه ربما المهنية هو التسجيل في تخصص جامعي
معين. لذا فلتجعلوا قراركم صائبا و منطقيا.
اجلسوا مع أنفسكم و حددوا
رغباتكم بدقة و لتكن فعلا رغباتكم لا رغبات أوليائكم أو إخوانكم و لا جيرانكم فهذا
مهم جدا. بعد ذلك حددوا نقاط قوتكم التي تتماشى مع هذه الرغبات و الفرص المتاحة
لتحقيقها. إن لم تجدوا هذه الفرص فهذه فرصتكم لخلقها فاستغلوها. تساءلوا عن
أهدافكم في الحياة و لتكن أهدافا حقيقية لا تنحصر في منزل و سيارة و لا في عريس و
رحلة. حددوا أهدافكم بدقة ثم اختاروا التخصص الذي يفتح لكم الأبواب نحوها لا الذي
يوصدها.
إنها فرصتكم لبناء مستقبلكم فاستغلوها.
مقران كتمير
ماستر إنتاج محروقات كوتش،
محاضر و مدرب معتمد في التنمية البشرية و الذاتية.
تيزي وزو: 2017/07/24